لحظات لا أذكر لها مواعيد محددة أو ملامح زمنية ثابتة , كان الليل أكبرَ مراتِعها , تأخذني الذاكرةُ , والضميرُ , والهواجسُ , لتسحبني من ناصيتي مُصفَّدا يدا بيد مع النفس والشيطان , كنا دائما ثلاثة نوزع الاتهامات , نتبادل الذكرى والحجج , كلٌّ يتنصّل قاسما أو حالفا اليمين أو اليسار , لا يهمه من الاتجاهات غير إسقاط التهم عنه والإفلات ... كانت لياليَ تطول ولا تطول , كادت في معظمها تكون بلا صباحات ... صرتُ معها أُسحب إلى السرير سحبا , أكاد أهفو لمغادرة الليل وهجره لولا دفعُ النومِ جفنيَّ وجسدي إلى الاستسلام ... لم أعد أعرف لفراشي شريكا غير الأرق , وصُور من هنا وهناك ,من كل أزمنة ماضِيَ وما خلا من الأيام ... كم مرة تمنيت الولادة من جديد , كم مرة تمنيت الموت بلا تبعات أو تحقيق ... كان ماضيَ تلك الذبابةَ السوداءَ التي علِقت بين حاجبَيْ رجلٍ مشلول, لاأستطيع هشّها ولا نشّها... كانوا خلال كل محاكمات السرير يسألونني وأسائل معهم نفسي : ـ لِم رسمتُ كل تلك الرسومات على لوحاتي وصحيفتي ؟؟؟ أكان الحب وازعها , أم كانت النشوة , أم هي شقاوة بليد... كالكلبِ كنتُ أرجّ فروتي و أهزّها بشدة عساني أتخلص منها أو أسقط بعضها , فأجدها تتشبث بي ككلبة بثمان أثداء تحرص على عدم إفلاتها الجراءُ السوداء ... طال بي هذا الوضع أياما وأسابيع ليمتد إلى الشهور والسنوات , إلى أن صار الآن قصصا من روايات نومي ... أدركت بعد عناء وعناء أنها صحوة الضمير وانتفاضاته , وهزتني النشوة في الأخير على أني ما زلت أمتلك ضمير ( يا فرحتي)...كان ضميرا كالخفاش وهوامّ الليل , يصحو ليلا وينام النهار , لا أعرف مَن منا حادَعن مسار الزمن , ومن عليه أن يلحق بالآخر ... كثيرةٌ هي اللحظات التي رجوتُه فيها وجثوتُ على قدميْه أستجدِيه أن يشاركني يقظةَ النهار , ويكون النورَ الذي تهتدي به سلوكياتي وحركاتي والسكنات , رَجَجْتُهُ ورججته ورججته كمن يريد استعادة جسد يُحتضر من غياهب الموت , لم أجد منه غير سيل من التثاؤب ... وكاليائس كنت أعود أدراجي خائبا يرافقني دربي الشيطانُ ونفسي ... كم تمنيت الخلاص من هذين اللعينين اللعوبين الجميلين , كانت أحلى أيامي حين أقاسمهما المغامرات واللحظات , كانا ظلّيَ اللّصيق , ومصدرَ لهْوي و شطَحاتي , كانا رفيقَيَّ المحبوبيْن , لم يكن يومها الشيطان شيطانا , ولا النفس ماردا ... كانا بمثابة الأب " نويل" لكل لُعبي و لهوي ...
اليوم , لم يعد كعهد الأمس , تراكمت عليّ التجاربُ والنكساتُ والأيام , كثُرتِ الكبَوات والعثرات حتى تبدّلَت قسرا رؤيتي وبصيرتي , وبدت ليَ مشارفُ نهاياتي رغم غبش رؤيتي وبصري ... ألقيتُ النظر إلى شريط عمري وآثار ممشاي وخطواتي, فوجدتُني تجاوزت منتصف العمر ولم يبق بيني ونهاياتي سوى ليلتي أو غدي , كنت أسارع الخطو و القهقرى إلى الخلف عساني أخلد في يومي , أو أُوقِفُ تواليَ الأيام على سنواتي ... أفلحتُ بالعودة بذاكرتي دون جسدي , تخلّيتُ عنه ولم آبَهْ لبقائه هناك حيث الموتُ يطلبه , كم كان ماضيَ حلوا عذبا جميلا , وجدتُ على المنعطفات كل رفيقات دربي وعشقي, كنّ حوريات ترفُلن في الوسامة و الحرير, كانت ضحكاتهن نواقيس كنائس قلبي ولهفتي , كنّ الغطاء والفراش والهذيان ولمسات الانصهار , كنّ بلسمَ الجراح , وجراحَ الوحدة ... سِربا من الطيور هنَّ تلك النوارس المهاجرة , كانت تحطّ على أرضي وعشبي الواحدة تلك الأخرى , لم أفطن أن لكل المتع أجرا وحسابا وأتاوات ... كم ساءَلَت نفسي رفيقِيَ الشيطانَ المتفهمَ المتساهل , عن وضع المُتع والتبعات , وكان الجواب دائما يثلج قلبيَ وذاتي ,,,هِمتُ خلف الملذات , واستثقلت الفروض والعبادات , فتباعدت الفواصل بينها , أضحى لكل يوم ظُهرا أو عصرا أو عشاء , ومن الأيام من لم يحظَ بركعات ... تراكمَت خلفَ ظهري أوراقُ يومياتي والمذكرات , وخطّتِ التجاعيدُ على جدار زنزانةِ محيّايَ نُدوبا تؤرّخ بها لعمري وسنوات أمسي , كم كان الأمس رهيبا مهولا بضخامة ركامه ... وأنا أتصفحُه , وجدتُ به بدلَ السنواتِ عقودا قدِ التفّت على بعضِها كسُبحةٍ مُهمَلةٍ مِن عهدٍ الأجداد, عددتُ العقودَ والسنوات , فوجدتُها تجاوزَتِ الستين , علمتُ حينها في لحظة أن الماضي قد امتص كل سنوات عمري , تمنيتُ أن أكون جرذا حقيرا فأندسّ بين ركاماتي , أو فضالة بشرية أو شيئا من حفريات التاريخ ...تمنّيتُ وتمنيتُ وتمنيت ... وبين الأماني يسحبني الضمير , يسحبني الضمير الذي كان للأسف بالأمس رفيقيَ و شاهدي على المسير , تنكّر إليّ في لحظة , واسترجل عليّ حين صارت بشرتي وجلدي خرقا بالية لا تستهوي الناظرين , ناشدتُه بزمالة الأمس , وجميل اللحظات , ولين العشرة , لكن ابن الكلب كلبٌ , لا يجدي فيه الاستجداء و لا الرجاء ... ظل يسحبني بالليل عبر السرير , تمنيت لو طلع النهار , حتى يختفي كعادته , بات يأتيني كل ليلة , يستغل ضعفي ووَهني , ليسحبني على الأرض كالإيهاب المبلول, يطوّفني على كل لحظات أمسي الجميلة الممتعة, استغربت صِدقا كيف صارت تبدو لي بدوري كلُّ النوارس غرابيبَ سود !!؟ استنجدتُ بنفسي التي كانت دوما جزءً من كياني وجسدي , فتنكّرَت لي وتبرّأت مني وقالت نفسي نفسي , لأول مرة أراها تبتعد على مسافة مني , كنت أخالها قبْلا يدا أو رِجلا أو عضوا لا ينفصل عن جسدي , فإذا بها اليوم هناك في منأى عن العتاب, بينما بدوتُ ككلبٍ أجربَ عافَتْهُ النفوس ... لم أهتم للخذلان من صديق مادامت الروايات تحكي عن كثرتهم , فلم أُعِرِ الأمرَ اهتماما ما دام بجنبي حبيبي الشيطان رفيقُ دربيَ الدائم الذي لم يتخلّ عني بالأمس لحظة , لم أعرف لِمَ يُصرّ الليلة على الإبقاء على مسافة بينه و بين الضمير الجاثم على أنفاسي , مسافةٌ تزيدُ كلما شدّ الأخيرُ عليَّ الخناقَ , وتقِلُّ كلّما وَهَنَ !!؟ رميتُه خلسة بنظرة ليتدخّل ويُنقذني من هذا الذي صحا فجأة وتنمّر عليّ , فبادلني في إهمالٍ بنظرةِ اللّامبالاة , نظرةِ من لا يعنيه الأمرُ , وغادَر يتعقّبُه ضراطُه , كمنِ استقلّ طائرة إلى المجهول !!؟ كاد عقلي يتبعه من شدة المفاجأة, توزعتُ بين الصراخ والعويل والبكاء , ولم أجد لنفسي عزاء غير حسرتي وندمي ... الآن وقد صرت وحدي وحيدا مجردا من الكلّ إلا أمسي , استسلمتُ للوضع , وتركت أمري للضمير يفعل بي ما يشاء ما دام الصبح غير قريب ...
والآن , وها قد بدأ السؤال ... تلفتتُ يمنة ويسرة علّني أجد منكر أو نكير , أو أي إشارة عن قبر أو تراب , أو حتى أسمع نحيب أونواح مودّع ,لأتيقّن من مماتي , أشفقت على نفسي وتحسرتُ لها أَنْ لم أجد أثرا لمُشيّعيّ, ألهذا الحد رخُصت على أهلي وذويّ ؟؟؟ ما أحقر الحياة وأبغضها !!! استغربتُ كيف ما زلتُ أجد سعة في قبري , وبذل التراب فراشا وثيرا ليّن اللمسات , بدأ حينها يتسرب لنفسي شيءٌ من الدّعة والاطمئنان , أيقنتُ على الأقل أنها ليست النهاية ,أيقنت أنها مجرد صحوة ضمير , وحساب سابقٌ لأوانه من عزيز, حسابٌ قبلَ الحساب ... أخذَتني نشوة ُالحياة , وتنبّهتُ لأول مرة لطعمها الذي تختزله في بساطتها,,, ومن يومها أقسمت أن أجعلها البداية ... صالحتُ حينها الضميرَ , وتبادلنا العتاب والمؤاخذات , عاتبتُه كيف تخلى عني كل تلك السنين , كيف تركني أنغمس في وحل سنوات الضياع , وكيف وكيف وكيف , إلى أن طلع النهارُ , لأجدَه لأول مرّة ,على غير عادته, جنبا إلى جنبي في وضَح النهار , فصرتُ أنهى بنهيه , وأهش بعصاه على كل شياطيني ونفسي , وتداركتُ ببصيرته ما فرّطت في جنب الله , ومن هناك جدّدت المسير ...
تبارك الله عليك يا اخي ...ما اجمل ما كتبت ...و ما اجمل تصويرك للعدوين اللذوذين النفس و الشيطان ....كيف كانا هما الحبيبان المخلصان اوقات الضياع و الغفلة و كم كانت همسات الضمير خافتة بعيدة و كيف لها ان تسمع و الشيطان يصرخ في الاذن اليمنى و النفس تصرخ في اليسرى ...ثم تنقلب الاية بثورة الضمير و اعلاء صوته ليخرص اعداء الانسان فيصبح الصديق و الحبيب و ينير درب صاحبه و يحرص على خطواته لتكون بكامل الثقة و الامان..في طريق الدنيا المحفوف بكل انواع الشهوات و الملذات ................
اتمنى ان لا تخيبنا ضمائرنا و لا تتركنا عرضة لوساوس الشيطان ..وورقة تتناثرهارياح النفس الامارة بالسوء
ما كتبته يا اخي كان جيد جدا .....اتمنى لك التوفيق