الأدب بين المنهج التاريخي والنفسي
السمة المشتركة بين المنهجين التاريخي والنفسي، هي أنهما منهجان خارجيان، يدرسان الظاهرة الأدبية من خارجها ويفسران العمل الأدبي، أما برده إلى الشروط التاريخية أو إلى العوامل الباطنية للمؤلف، وذلك أن السياق الفكري الذي ترعرعت فيه هذه المناهج سادت فيه النزعة التاريخية ، حيث كانت تفسر كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق يتحكم دائما في اللاحق، وحول هذه النقطة اتفق مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية ، فقد قدم " داروين تفسيرا لتطور الأحياء من منظور تاريخي ونقل " سبنسر " نظرية داروين من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية، واتخذ نتيشه من فكرة التاريخ أساسا لفلسفة كاملة تؤمن بان للأخلاق والمعرفة والقيم تاريخا، وبان حاضر هذه المعاني لا يفهم إلا من خلال ماضيها، وبان الإنسان كائن تاريخي في صميمه، وطبق كارل ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة ... بل يمكن القول من وجهة نظر معينة، أن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها، وهي فكرة السببية طابعا تاريخيا أو زمنيا ، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في التاريخ. أي أن التاريخ أصبح متغلغلا في كل شيء .
بالإضافة إلى هيمنة التاريخ، كانت هذه المرحلة خاضعة لأطر الفلسفة الوضعية التي وضع صيغتها الأولية الفيلسوف الفرنسي " اوعست كونت " الذي أصدر بين 1830-1846 دراسته " بحث في الفلسفة الوضعية "، والى النزعة التجريبية، حيث أكد " فرانسيس بيكون " على أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع.
لقد كانت غاية الفلسفة الوضعية هي نقل مناهج ومبادئ العلوم الطبيعية إلى مواضيع الفن فكان " الفيلسوف الوضعي أكثر اهتماما بالحقائق المدركة حسيا منه بالأفكار، وبالكيفية التي تنشأ بها هذه الأفكار منه بأسبابها، ونبذت كل معرفة لا ترتكز على دلائل حسية باعتبارها تأملا تافها، وكان لهذا النوع من الوضعية، في أواخر القرن 19 تأثير كبير في الفكر الأوربي بوجه عام وفي دراسة الأدب بوجه خاص.
وبموجب هذا التصور أصبح هدف الدراسة الأدبية هو تفسير النصوص سببيا، من خلال علاقاتها بالمحيط الخارجي، و الغاية من ذلك هي محاكاة مناهج العلوم الطبيعية من اجل أحداث تاريخ علمي للظواهر الأدبية.
إن هذه الطريقة في الدراسة الأدبية اقتصرت على البحث في الأسباب الوقائعية والتكوينية كحياة المؤلف والبيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث لم ترق إلى ملامسة الجوهري في النصوص، فالتجأت إلى فقه اللغة وفروع التاريخ بهدف تفسير معاني الكلمات المفردة وشرح الإحالات والتلميحات مغيبة قيمة الأدب وخصائصه النوعية، حيث عاملت النصوص باعتبارها آثارا ووثائق تاريخية.
لقد هيمن هذا المنظور الوضعي للأدب ردحا من الزمن في أوربا، ولدى العرب المحدثين، وتجلى ذلك من خلال الكم الهائل للمؤلفات التي تدرس المؤلف وأعماله ، وقد أسفرت هذه الدراسات على مجموعة من القضايا تتمثل في الاهتمام المتزايد بتوثيق النصوص وشرحها، وتحقيقها، وبأخبار الكتاب والشعراء والاهتمام بالمؤلفين البارزين بدل المغمورين، وقد نجم ذلك عن غياب لتحديد موضوع الأدب ومفهوم النص. فالأدب كان أرضا بلا مالك ، لذلك كان عرضة للعديد من المناهج والاختصاصات بعيدة كل البعد عن طبيعة الموضوع المدروس، لذلك أصبح لزاما أن يستقل الأدب بموضوعه وبمنهجه